الفصل الأول
الزواج والأسرة
2- لماذا خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى؟
لعلك عندما قرأت هذه الكلمات في الإصحاح الأول من سفر التكوين " فخلق الله الإنسان على صورة الله. على صورته خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم" (أية 27)، سألت نفسك، لماذا خلق الله الإنسان هكذا ذكراً وأنثى؟ ولكن ما أن تتابع قراءتك في الإصحاح الثاني حتى تجد الإجابة.. إن أدم كان في الجنة وحيداً، لم تسعده الألفة مع الحيوانات أو كافة المخلوقات المادية التي خلقها الله له.. ويعبر الكتاب عن هذا بالقول " ليس جيداً أن يوجد أدم وحده" (تك2: 18) " وأما لنفسة لم يجد معيناً نظيراً".. "فأوقع الرب الإله سباتاً على ادم فنام؛ فأخذ واحداً من أضلاعه، وملأ مكانها لحماً، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من أدم إمراة واحضرها إلى ادم. فقال ادم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمى.. هذه تدعى إمراة لأنها من إمرء آخذت.. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بآمراته ويكونان جسدا واحدا" (تك2: 20-25).
فيتضح إذن القصد الالهى إن الأنوثة تصنع شركة ووحدة مع الذكورة.. وفى هذه التكامل تصبح الحياة بهيجه، إذ يرى الرجل في آمراته ما لا يجده في نفسه فلا تكون البشرية نسخة واحدة متكررة من ادم، بل يكون هناك الرجل وتكون هناك المرأة.. إن ادم شعر بفائدة خلقة حواء له، وأنها توافقه كل الموافقة، وهو يتوافق معها كل الاتساق والموافقة. ولاحظ إن بعض ما ينقصه كان موجود في رفيقته حواء، وبعض ما ينقصها هي قد أحرزه في كيانة، فقد قسم الله بينهما مواهبه.. وهكذا يكمل الواحد الأخر، وفى وحدتهما تجتمع ثروة بشرية كاملة ومنسجمة..
وتقسيم المواهب الإلهية على كليهما هي أحدى معجزات خلق الإنسان، فجسم الرجل يختلف عن جسم المرآة في تركيبه وبعض أعضائه، ولهذا يقبل الرجل عموما على الأعمال الخشنة التي تحتاج إلى مجهود عضلي كالبناء والنجارة والحدادة والأشغال المتعبة في الخارج، بينما المرآة يتفق تكوينها عموما مع المهام المنزلية ورعاية الأطفال والعناية بالشئون الشخصية الفردية – وأن كان عصرنا هذا قد غير الكثير من هذه النواميس الطبيعية..
وهكذا إذ يجتمع الحنو مع الشدة، والبأس مع الرقة يحث الانسجام المذهل في الحياة البشرية..
وهكذا تصبح الحياة أيضا جميلة عندما يلتقي الرجل والمرآة على صعيد الحب والحياة الزوجية، إذ يتبادلان التشجيعات وبذل الذات، ويتحابان ويرتبطان بسر الزيجة المقدس، لتكون حياتهما مملكة مقدسة للرب على الأرض.
3- ملكوت الله في الأسرة المقدسة
لعللك حضرت عرسا، وشاهدت صلاة الإكليل في الكنيسة. إن الصلوات التي تسمعها كلها تشير إلى إن الأسرة في قصد الله تعنى كنيسة صغيرة وطريقا إلى الملكوت.. لهذا يضع الكاهن على راسي العروسين الأكاليل.. لان الإكليل هو إشارة إلى الملك. فأكاليل الزواج تشير بداية تأسيس مملكة صغيرة هي عربون الملكوت السماوي الابدى. وإذا كنت ترى بعض المسيحيين حاليا قد افرغوا الأسرة من هذا المضمون، وصارت حياتهم العالمية دنيوية خالية من الحضور الالهى وليست ساعية إلى الملكوت، فان هذه هي الخطيئة التي تشابة الخيانة الزوجية..
ما أسمى نظرة كنيستنا إلى سر الزيجة.. أنها تعتبره حياة مقدسة، وصلواته صلوات روحانية يحل فيها الرب يسوع بروحه القدوس مع ملائكته وقديسيه وعلى رأسهم العذراء مريم الذين شاركوا جميعا في عرس قانا الجليل.. أنهم يشرفون ليشاركوا أعضاء الكنيسة أفراحهم ومشاعرهم ويعطى الرب بنفسه وبروحة القدوس بركة قانا الجليل للعروسيين.
ما أرق هذا!! وما أقدسه!! وما أبعده عن المفهوم الدنيوي السائد في هذا العالم تجاه هذا السر!! وما أروع طقس الكنيسة في ليتورجية الزواج عندما تختتم صلواتها بالتقديس على هذا الحب الذي جمع العروسين. انها تقرا كلمات بولس الرسول الذي يشبة العلاقة بين الزوجيين بعلاقة المسيح بالكنيسة.. ثم هي تؤكد إن الذي ألف القلبين هو الروح القدس نفسه الذي يشبه العازف الذي يصنع من الأوتار المختلفة نغما ملائكيا ولحنا سمائيا وسيمفونية إلهية.. هذا هو موضوع اللحن الذي يرتله الشمامسة بعد الإنجيل "هؤلاء الذين الفهم الروح القدس معا مثل قيثارة يسبحون الله كل حين بمزامير وتسابيح وتماجيد روحية النهار والليل بقلب لا يسكت " ثم تصلى ايضا كى يبارك الرب مضجعهما "إطلع على عبيدك.. ثبت اتصالاهما. احرس مضجعهما نقيا. استرهما مع بيتهما بيمينك.. احفظهما بامتزاج واحد وسلام. هب لهما فرحا وسرورا ليظهر لك يا الله الحى ثمرة الحياة من البطن".
4- الحب الزيجي
لعلك شاهدت يوماً منظراً انطبع بعمق في ذاكرتك عندما رأيت زوجين حديثي الزواج وقد انفردا معاص في جلسة هادئة أو نزهة لطيفة.. أو آخرين قد مضى على زواجهم سنيناً طويلة وأحدهم يؤنس الأخر ويلاطفه في ضيقة يمر بها.. بل وأحياناً يجلسان معاً في هدوء صمت ولكن سر الحب يشع من قلبيهما لأن زمان الكلام قد انتهى وبقي لهيب الإلهي الزوجي سعيراً ملتهباً لم تستطع أحداث الحياة وهموم الدنيا وتحديات الأيام أن تجعله يخبو أو تنطفئ جذوته..
إن الحب الطاهر بين الرجل والمرآة اهو سر من الأسرار العجيبة التي خلقها الله في حياة الإنسان. إنه سعادة للإنسان ودفء له وسط ثلوج الحياة المتراكمة.. إنها متعته وسط هموم الدنيا وأتعابها..
كيف يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً؟!.. إنه معنى عميق فيه الالتقاء والانتقاء والشركة. لقد انتقاها وأحبها والتزم بها. وصنع معها وحدة زيجية تفيض حباً وفرحاً.. لهذا قال الكتاب إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، فمع عن الله ليس ثلاثة أشخاص منفصلة، ولكنه ثلاثة أقانيم متحدة في جوهر واحد، ومن خلال هذه الشركة يحيا الأب مع الكلمة الابن والروح القدس في ألفة المحبة الإلهية التي تعلو على كل إدراك وقياس. هكذا الإنسان مخلوق على نفس الصورة – مع الفارق الشديد – إذ إن سعادته لا تكتمل إلا في جو من الشركة مع الأخر.
فعندما يشب الطفل ويجد أباه وأمه واحداً في الروح والفكر والقلب والاهتمام يدرك شيئاً عن محبة الله ويفهم شيئاً من قصد الله في تكوين الأسرة. إن الطفل لا ينمو بلبن الرضاعة فقط بل بحليب الحنان والحب.. لا يشبعه ما يدخل جوفه من خلال فمه فقط بل ينتعش أكثر من خلال قبلات والديه وابتساماتهم وصدرهم المملوء حناناً وحباً وفرحاً بوجوده..
نعم، في الأسرة يقتني الطفل اختباراته الأولى في الحياة، إنها خبرة الحب العظيم والتفاني الدائم.. وهذه هي الهدية العظيمة التي ينعم بها الله على الأطفال، كما إن الأطفال أنفسهم هم هدية الله للوالدين، لأنه فيهم يلتقي القلبان وتتحد الأفئدة والأرواح وتدعم الشركة والوحدة ويلتهب الحب بالنار التي ألقاها الرب على الأرض وأرادها أن تضرم.
هيا بنا لتلمس أثر هذا الحب الزيجي الذي غرسه الله في قلب كل إنسان..
قد لا تشعر في هذا السن الذي أنت فيه بإحساس خاص تجاه شخص من الجنس الأخر إما لنظرتك الطاهرة في التعامل مع الجميع منهم؛ وقوة إرادتك في عدم الاستهواء لأحد، أو لعدم تواجد الفرص للتعامل معهم.. لا تنزعج لهذا.. إنه شئ طيب..
ولكني أريد أن أقول للبعض الذي بدأ يحس بتعلق عاطفي، إن هذا الذي نبت في داخله ليس هو الثمرة الناضجة التي ينبغي أكلها وذلك لأسباب ينبغي أن نطرحها للبحث والمناقشة بوضوح..
إننا نسأل هذا الفتى أو تلك الفتاة: ما هي المقاييس التي بنيت عليها إعجابك بالشخص الأخر؟! إنها غالباً ما تكون مقاييس سطحية ليست هي التي على أساسها يختار الشخص الناضج شريك حياته.. ما أدراك بطباع تلك الفتاة ذات الملامح الجميلة؟! وماذا تعرفين عن ذالك الفتي ذو الجسد المتناسق والوجه الوسيم؟!
بل أريد أن أقول أكثر من هذا، إنه حتى لو كان إعجابك بالشخصية تجاوز حد السمات الجسمية والعاطفية وكان إعجاباً عميقاً؛ فأنت لا تعرف إن كان سيظل هذا الإعجاب قوياً ومستمراً مع مرور الزمن وتغير الظروف والأحوال الخارجية والداخلية حتى يأتي سن الزواج الذي يتأخر بتعقد الحياة والظروف الاقتصادية والاجتماعية والعلمية المتلاحقة.
ثم أنت تتغير داخلياً حسبما يؤكد رجال علم النفس، فلكل مرحلة نمو سيكولوجيتها وسماتها، فما كنت تختاره من ملابس في المرحلة الثانوية ترفض أن ترتديه وأنت على أعتاب نهاية المرحلة الجامعية، فما يروق لك اليوم ينمو ويتطور ويتعدل، خاصة إذا كان النمو النفسي والروحي طبيعياً لا انحراف فيه..
إنها مرحلة لابد أن تنمو فيها مفاهيمك ومقاييس إعجابك بالأمور. فهل من الحكمة أن ترتبط منذ الآن بشخص لمدة سنوات طويلة لا تعلم ماذا سيصادفك فيها من خبرات وتحديات؟!
بل وحتى إن إفترضنا ثباتك على رأيك طوال السنوات الطويلة القادمة فسوف يكون الوضع أسوأ. فماذا تتوقع أن يكون حال عواطفك خلال تلك الفترة؟! إنها مشاعر ولهانة، ولو إفترضنا نموها، فأن هذا النمو سيكون نوعاً من الاحتراق الداخلي وتعذيب النفس، هذا على أحسن احتمالات، إذ من الممكن أن يقود هذا للزنى وممارسة العادات الجنسية المنحرفة.
إذ حتى لو إحساسك بالأخر ظاهرة غير نجسة فأنه من الأفضل للطرفين أن يكبحا جماح نفسيهما.. لا تبح سرك لأحد إلا لأب اعترافك كي يصلي من أجلك كي يرفع الرب عنك الحرب أو يمنحك الإرادة لتصبر حتى تنضج وتأتي الساعة المعينة من الرب لتحقيق شركة الحب الزيجي. فأحرص على ألا تختلي بالأخر ولا تلعب بعواطفة وتثيرها لئلا تعثرة وتعثر نفسك أيضاً. سلم هذه الطاقة المقدسة للرب وأستودعها في يد راعي الرعاة الاعظم الذي يدبر حياتك ويعرف الصالح ويمنحه في حينه الحسن.. إنه يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح.. طوبى لمن أمن وسلم حياته لمن بيده مفاتيح الحياة..
لقد تسلم لنا من الآباء إن الحب الزوجي ليس نوعاً من الغراميات، إنه حب واقعي روحي ملتزم. وهو حي طاهر لا يتجه إلي الجسد وحده ليتلهى به ويلتذ، وإنما يلتقي بالأخر على مستوى الشخص كله بكيانه الروحي والنفسي والعاطفي والفكري والجسدي.. وهو حب نامي يبدأ حاراً في الخطوبة السعيدة ولا تطفئه إحباطات الحياة ومصادمات الشركة واختلافات الطباع والأفكار. بل هو حب يتجاوز كل هذه الصعاب لأنه حب إلهي أمكن أن ينتهي، ما كان حباً يوماً.. وهو حب عميق يجد في إتحاد الجسدين تعبيراً عن الداخل. إنه لغة ووسيلة وصال.. وإن تعذر اللقاء الجسدي لظروف طارئة في الحياة الزوجية كالسفر لبعثة أو المرض مدة، فأن هذا لا يهدد الوحدة لأن الحب ليس هو الجنس، بل إن الجنس هو تعبير عن الحب.
إن هذا لا يهدد الوحدة الصادقة لأن "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان"..
5- الثقة والوقار في الأسرة
وتحمل الحياة المسيحية طابع الثقة الكاملة؛ فالرجل يكرس حياته من أجل زوجته، والمرآة تقدس كيانها كله لأجل زوجها.. فلا خيانة في نظرات شريرة، أو النطق بكلمات دنسة داخل أو خارج البيت، ولا علاقات مريبة ولا منادمات أو إعجاب في طياته بداية خيانة أو جرح أو شرخ للوحدة المقدسة التي أقامها الروح القدس في سر الزيجة المقدس..
فكما إن المسيح – له المجد – قدس ذاته لأجل كنيسته، هكذا الرجل لأجل أسرته، وكما إن الكنيسة عروس مكرسة لعريسها التي اشتراها بدمه الثمين على الصليب، هكذا المرآة تنظر إلي حياتها العائلية من هذا المنظار.
ويتسم البيت المسيحي بالوقار والحشمة، فهو يرفض الأغاني والتمثيليات الهابطة والنكات والألفاظ البذيئة.
* لهذا تجد الصلوات المرفوعة على المذبح العائلي..
* وتلحظ الأصوام والمطانيات وتلاوة المزامير..
* وتدوم مطالعة سير القديسين واختبارات الآباء الأوليين..
* وتعمل التماجيد للشهداء والنساك ويتشفع أهل البيت بصلواتهم ويتضرعون إلي الله ليرسل ملاكه ليحفظ البيت من كل شر وغم وحزن ردئ..
هذه كلها تضفي على الأسرة مسحة روحية وطابعاً وقوراً يجعل البيت قلعة مضيئة وسط ضباب الحياة وأمواجها المضطربة ومبادئها المتصارعة والهدامة والمنحلة. ولعلك تلحظ أيضاً طابع الحشمة عند الزوجين حتى داخل البيت نفسه الذي لا تعلو فيه الأصوات، ولا تحتد فيه المناقشات، وإنما يسوده الهدوء المقدس الذي يشجع على عمق العبادة وصفاء التفكير والدراسة والتحصيل.. إنك عندما تخطو عتبة بيت مسيحي ملئ بالحب والقداسة والوقار تشعر يقيناً إنك في هيكل مقدس ومملكة للرب على الأرض في هذا العالم الهابط.
6- البتولية امتداد مقدس
* وإذ كان الحب الزيجي مباركاً إلي هذا الحد!
* وإذ كانت الحياة الزوجية الطاهرة شبه كنيسة مقدسة!
* وإذ كانت العلاقات الزوجية قد تقدست بعمل النعمة في السر المقدس وفاعلية الروح القدس!
فلماذا إذاً الرهبان والراهبات؟
ولماذا البتوليون الذين لا يتزوجون؟
الجسديون ينظرون إلي هؤلاء على إنهم شواذ أو غير طبيعيين، والبعض ينظر إليهم على إنهم خارجون عن خط الحياة العامة.. أو أنهم قد صدموا عاطفياً أو نفسياً أو اجتماعيا..
هؤلاء جميعاً مخطئين
أسمع أشعياء النبي بروح النبوة يقول " ولا يقل الخصي ها أنا شجرة يابسة، لأنه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي ويختارون ما يسرني ويتمسكون بعهدي، إني أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصيباً واسما أفضل من البنيين والبنات أعطيهم أسماً أبدياً لا ينقطع " (أش56: 3، 5).
لا نعجب أن نجد أناساً امتلأت قلوبهم حباً في المسيح فرفضوا أن ينشغلوا بأخر سواه.. صار هو عريسهم الوحيد ودخلوا في خطبة مقدسة دائمة معه.. عاشوا في هيام الحب الإلهي مفضلين إياه بالأحرى عن الحب الزيجي والحب العائلي والحب البشري بكافة صوره. كرسوا حياتهم لحفظ وصاياه ومناجاته الليل والنهار..
يقول القديس أنطونيوس عن حياة البتولية "إنها الذبيحة الروحانية المقدسة وهي البشارة والحياة التي تظهر السرائر الخفية منذ الدهور والأجيال كلها" ويؤكد بولس الرسول كيف إن البتولية امتداد أفضل بقوله " غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب، أما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضي إمرآته. إن بين الزوجة والعذراء فرقاً. غير المتزوجة تهتم فيما للرب لتكون مقدسة جسداً وروحاً. أما المتزوجة فتهتم فيما للعالم كيف ترضي زوجها.. من زوج فحسناً يفعل، ومن لا يزوج يفعل أحسن" (1كو7: 32-34). ويلزمنا أن نعرف إن البتولية نعمة خاصة تعطى للمختارين والمجاهدين في لهفة الشوق إليها.. إنها عطية مجانية وموهبة خاصة من الله.
وقد أشار الرب إلي حياة البتولية بقوله "يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات" (مت19: 12). فلا بتولية بدون حب.. حب لله، وحب لجميع الناس.. يشبه البتول بالنحلة النشيطة بالداخل والخارج.. تحمل الرحيق، وتخدم الجميع، فهو لا يكف عن الصلاة ولا يهدأ عن تقديم رسالة الخدمة والحب للجميع.
ونحن نعيش في عصر دنيوي مادي لا يكرم البتولية والتفرغ الكامل والتكريس للعبادة والخدمة.. إنه يفزع من رؤية الرهبان والراهبات والمكرسين والمكرسات لأنهم يمثلون أمامه تحدياً وتأنيباً وتوبيخاً عن حياة مغمورة في بالوعة الحياة المادية. وأمثال هؤلاء يطرحون سؤالاً: إذ تبتل جميع البشر أفلا تنقرض البشرية؟! هذا إفتراض غير وارد في الواقع العملي، ومع ذلك فقد رد على السؤال المغبوط أوغسطين: إذ إفترضنا إن جميع الناس سلكت طريق البتولية المقدس فلن يكون هذا شراً؛ لأنه إن انقرضت البشرية فخير لها أن تتوقف على أن تسير في الفساد.. ويقول إكليمنضس السكندري: إذا حدث هذا فسوف ينهي الرب الزمان ويدخل المختارون كنيسة الأبكار لأن التاريخ يكون قد حقق الهدف المرجو منه. يا ليت الكثيرين يسمعون الإنجيل قائلاً: " كل من ترك بيوتاً أو أخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو أمرآة أو أولاداً أو حقولاً من أجل أسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية" (مت19: 29).
وأنت يا إبني إن سمعت النداء في قلبك لهذه الحياة فلا تطفئه بل صل من أجله ودع الروح يكشف لك عن مدى صدقه وعمقه وأصالته حتى لا يكون مجرد نزوة طارئة أو نزوة متأثرة بعلاقة راهب.
ولكن ما أن تأكدت من سمو هذه الرغبة ودوافعها الإيجابية فعليك أن تنميها بزيادة العشرة مع الله ومحبته. اطرح أشواقك هذه أمام الله وقل له: "إن شئت خذني بالتمام لأكون لك ولتكن أنت وحدك أيضاً لي". لا تطلب بإصرار شكلاً معيناً لهذا التكريس لأنه في الوقت المناسب سوف يعطيك الرب سؤل قلبك وبالطريقة التي يختارها.
بل وحتى إن شاء لك الر بأن تتزوج سوف تشعر إنك لم تفقد أشواقك القديمة، بل تشعر إن يد الله عريسك الحقيقي ونبع فرحك الأبدي هي التي تقدم لك شريكة حياتك. وبهذا حتى لو تمتعت بمؤانسة بشرية إلا إنك تشعر في أعماقك بأن الله هو الذي يظلل حياتك الزوجية ويشبع كيانك الداخلي.
إن هذا لن يؤثر تأثيراً سيئاً على نظرتك للزواج بل يعطيها مسحة وصفاء ونقاءً قلبياً.. وهكذا تستطيع أن تجاهد لتأخذ نصيبك من البتولية بالقدر الذي يناسب قامتك حتى تعبر غربة هذا العالم دون نجاسة أو دنس.